بين المتحرك المتجدد والثابت القارّ المستمر خارج الزمكان..بين الأفعال التي وظّفها الشاعر بإتقان دقيق ، والفعل يحمل التنوّع مع الاستمرار في الزمان والمكان ، والتي تنوّعت بين الماضي والمضارع والأمر ، حيث بلغت 22 فعلا دون احتساب ما تكرر منها!!وبقية النص أسماء ، وهي التي تدل على الثبوت والثبات والاستمرار والدوام الأبدي ، فكانت كثيرة فاقت الأفعال ، حيث تعدّت الثمانين اسما ونيّف! وهذا دليل على دلالة الألفاظ في قصيدة (الإرث)، فالإرث رغم ثقله يستمرّ أمانة عظمى يجب أن يُحافَظ عليها رغم تغيّر الظروف والأمكنة..لهذا اكتظ النص بالأسماء !!
ولو تمعّنّا بعض الأسماء الواردة لوجدناها دلائل وصفات مقصودة..خذ مثلا (الرياح ، هسهسات ، أنفاس ..مدية ، خناجر ، الذبح ، النار...الطوفان ، الجبال ، السفن..) وهكذا..ثم انظر توالي أفعال الأمر بحرفية مذهلة :
أَخْرِجْ ـ اقْطُفْ ، امْضُغْ ، خُذْ ، اشْرَبْ ، ضَعْ
فالخروج والأخذ والوضع ، من جهة ، والقطف والمضغ والشرب ، من جهة أخرى ، دال على هذا التوازن الأخاذ بين دلالة كل فعل ! وفي مجموعها تشكل حالة من الدهشة..الدهشة التي تجعل من شاعرنا شديد التأثر بمن أهداه هذه الرائعة ! بالإضافة إلى حسن توظيفه لحروف الجر ،(وقد رافقت مجموعة كبيرة من الأسماء ) لأنّ قصيدته متعلّقة بغيره ، لذلك أناه يرافق جمله ولا يطغى عليها !!
وبعد هذه الملاحظة (الإحصائية) بالأرقام ، تأمّل معي ترابط الجمل الشعرية في المطلق..(أسْمَيْتُكَ الأَسَدَ المُجَنَّحَ .. أَسْمَيتُكَ الرُّوحَ المُقَدَّسَ .. أَسْمَيْتُكَ الحَطَّابَ ..أيها الوطن..)
فحين يتقمّص الوطن الإنسان أو الإنسان الوطن أو هما معا يذوبان فينسجان وجدان الشاعر..
والموروث الثقافي يظل يشكل مخيال شاعرنا ـ محمد السيد إبراهيم ـ حين يحاول أن يتّكئ على القَصص القرآني.. فيوسف ونوح و عيسى وموسى ومحمد (عليهم السلام) يلقون بقدسيتهم على النص بإشارات ذكية موجزة موحية ! (امرأة العزيز ، الطوفان ، الجبال ، السفن ، الروح المقدس ، أثر السجود..)
كما أن النصّ لا يخلو من إنسانية عميقة ! فذات الشاعر ـ محمد السيد إبراهيم ـ مدركة لما تعيشه الأوطان ، لما يعانيه الإنسان في معناه المطلق..غزّة ، دجلة ، القلات ..البشر ، الصرخة ، الشهيد ، الأرض، الماء..كل هذه الألفاظ بمعانيها ودلالاتها تدعم ما ذهبنا إليه من تمكّن الشاعر من أدواته ، وقدرته على المحاكاة والتناص بكثير من روحه ومخياله ومعينه !..فشكرا ألف شكر لشاعر يجبرك على أن تقرأه بحميمية ناعمة..شاعرٍ يفرض وباحترام كبير شاعريته على المتلقي..
القصيدة:
الإِرْثُ (إلى روح الشاعر الكبير / محمد عفيفي مطر)
أَسْمَيْتُكَ الأَسَدَ المُجَنَّحَ فِي أَسَاطيرِ الصِّبَا
يَغْزُو الرِّياحَ بِمُدْيَة ٍ مِنْ هَسْهَسَاتِ جَنَاحِهِ
فالرِّيحُ امْرَأَةُ العَزِيْزِ بِخِدْرِهَا قَدْ خَدَّرَتْ أَنْفَاسَهُ
قَدْ هَيَّأتْ في كُلِّ مُتَّكَإٍ خَنَاجِرَ خُضِّبَتْ مِنْ عِرْضِهِ بِجِرَاحِهِ
أَسْمَيتُكَ الرُّوحَ المُقَدَّسَ بِاسْمِهِ الأَبوابُ تُفْتَحُ في جِبَالٍ إِرْثُهَا
سُفُنٌ رَسَتْ فِي كَفِّها
مِنْ بَعْدِ طُوفَانٍ تَأَرْجَحَتِ الغُيُومُ بِسَطْحِهِ
أَنتَ ابْنُ حُلْمٍ لِيْ ؛ فَلا تَأْخُذْ بِلِحْيَةِ لَيْلِنَا
أَخْرِجْ لَنَا مِنْ جُبَّةِ الأَلواحِ مِيْثَاقَ النُّجُوم ِ لِمَنْ أُسِرْ
أَسْمَيْتُكَ الحَطَّابَ فِي عَصْرٍ يُحَرِّمُ قَطْعَ أَعْضَاءِ الشَّجَرْ
وَيُحَلِّلُ الذَّبْحَ المُزَفْزَفَ للبَشَرْ !!
فَاقْطُفْ بِفَأْسِكَ صَرْخَةً
نَبَتَتْ عَلَى صَدْرِ الشَّهِيْدِ بأرضِ (غَزَّةَ) ....
نَهْرِ دِجْلَةَ وَالقِلاتْ
وَامْضُغْ ثِمَارَ النَّارِ ..... خُذْ
مِنْ عَيْنِ شَحَّاذِيْنَ حَولَ مَوَائِدِ الأَقمَارِ أَرْغِفَةَ السُّبَاتْ
وَاشْرَبْ مِنَ الوَجَعِ المُصَفَّى فِي عيونِ النّاسِ أَنَّاتِ القُيُودْ
يَأَيُّهَا الوَطَنُ الذي تَرَكَتْ لَهُ الحَصْبَاءُ فوقَ جَبِيْنِهِ أَثَرَ السُّجُـودْ
ضَعْ عَنْكَ مَا قَدْ جَاءَ مِنْ أخبَارْ ؛
فَالأَرْضُ تَشْهَدُ أَنَّنا مِنْ عِرْقِهَا ،
والمَاءُ يَشْهَدْ أَنَّكَ المُخْتَـــارْ
