لغات العرب كثيرة ومتنوعة، لأن العرب قبائل، وتحت كل قبيلة بطون متعددة، ثم الأفخاذ ثم العشائر ثم الفصائل، ولابد أن يكون الاختلاف قد عم هذه الأقسام كلها، إن لم يكن في أصل اللغة ففي الفروع واللهجات(1
وبين ابن جني" أن اختلاف لغات العرب إنما أتاها من قبل أن أول ما وضع منها وضع على خلاف، وإن كان كله مسوقا على صحة وقياس، ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها، غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفا، وإن كان كل واحد آخذا من صحة القياس حظَّا"(2).
ولا بد أن تتفاوت هذه اللغات في الاستعمال لتنوعها ولاختلافها، وذكر ابن جني ذلك، وقال مبينا منهجه في تفضيل لغة قريش على غيرها: "حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب: قال ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم وكشكشة ربيعة وكسكسة هوازن وتضجع قيس وعجرفية ضبة وتلتلة بهراء. فأما عنعنة تميم فإن تميما تقول في موضع "أنَّ": "عنَّ" ، تقول: "عَنَّ عبدَ اللهِ قائمٌ" .. وأما تلتلة بهراء فإنهم يقولون: "تِعلمون" و"تِفعلون" و"تِصنعون" بكسر أوائل الحروف. وأما كشكشة ربيعة فإنما يريد قولها مع كاف ضمير المؤنث "إنكش" و"رأيتكش" و"أعطيتكش"، تفعل هذا في الوقف، فإذا وصلت أسقطت الشين، وأما كسكسة هوازن فقولهم أيضا "أعطيتكس" و"منكس" و"عنكس"، وهذا في الوقف دون الوصل، فإذا كان الأمر في اللغة المعول عليها هكذا وعلى هذا، فيجب أن يقل استعمالها، وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع منها، إلا أنَّ إنسانا لو استعملها لم يكن مخطئا لكلام العرب، لكنه كان يكون مخطئا لأجود اللغتين، فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه غير منعي عليه"(3).
التحديد المكاني: قصر النحاة أخذهم اللغة على قبائل معينة، واشترط نحاة البصرة أن تكون القبائل التي يحتج بكلامها صحيحة اللغة، ورأوا أن القبائل التي سلمت لغتها من اللحن والخطأ هي التي يعول عليها في وضع القوانين التي تحفظ الكلام، ووضعوا قوائم بأسماء القبائل التي يصح أخذ اللغة عنها.
قال الفارابي:" كانت قريش أجود العرب انتقاءا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعا، وأبينها إبانة عما في النفس، والذين نقلت عنهم العربية وبهم اقتدي وعنهم أخذ اللسان العربي بين قبائل العرب، هم قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم، وبالجملة لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم.."(1).
وهذا النص يوضح اختلاف لغات العرب في سلامة اللغة وفصاحتها، ويحدد القبائل التي أخذ عنها العلماء اللغة، ويضع المنهج الذي أخذ به العلماء اللغة، وهو أنه لا يؤخذ عن سكان الحواضر، ولا سكان القبائل المجاورة للأمم الأخرى غير العربية.
فاللغويون مختلفون في تقبل ما سمعوه عن العرب، وقد نزَّلوا العرب منازل في الفصاحة قال ابن فارس:" أجمع علماؤنا بكلام العرب .. أن قريشا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، .. فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش، وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب، ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولا عجرفية قيس، ولا كشكشة ربيعة، ولا كسر أسد وقيس"(1).
وهكذا صنف اللغويون والنحاة العرب في الفصاحة، فجعلوا قريشا أفصح العرب وأحسنهم لغة، ثم تخيروا قبائل أخرى اشتهرت بالفصاحة، مثل قيس وأسد وتميم وأسد نقلوا عنها اللغة، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين.
****
رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها
تخصص النحو والصرف
إعـداد الباحثة
فاطمة محمد طاهر حامد