قَرَاءَتِي لقِصَّة " عَصَا الأعمَى ! " ....
تعكِس قِصَّة " عَصَا الأعمَى " إسقَاطاتٍ سِيَاسِيَّة للعنَةِ الحَرب ، وَأنيَابٍ تهرشُ أشلاء بشَرِيَّة ، وتُعِدُّ جَحِيمَ الأرضِ لوطَنٍ مَسلوب ، فَنجدُ هُنَا تسليط جَوانب استنزَافٍ لوَصْفِ تَاريخ دَمَوِي ،
كمَا ونجدُ ثنائِيَّة وتَدَاخُل مَا بيْنَ " الرَّفض " وَ " الإيمَان " وَ " الإخلاص " وَ " التَّفانِي " تصلُ إلى منطقَة مَجهُولَة معتِمَة تصِفُ انثلامًا شُعورِيًّا وإعدامًا نفسِيًّا تمَّ اتخَاذ " الشِّيخ رَابح نموذجًا لهُ ، كدَلالةِ الجزء عَلى الكُل : "
حرب التحرير التي حفرت في أعماقه شيئا من الاعتزاز و..كثيرا من الانكسارات والألم.. جميع رفقاء السلاح أخذوا نصيبهم من (تركة الحرب) إلا هو.. هو نفسه لايدري لماذا حرموه (الامتيازات) التي تمنح عادة لقدماء المجاهدين..
ثم نادى مريم بصوت مبحوح ..ناوليني ـ طفلتي ـ تلك عصاي! سأزور الحاكم هذاالمساء..قد تركت داخل السجن الحقيقة كل الحقيقة.
هُنَا مَشْهَدٌ يُوصِلُنَا معَهُ إلى ذروَة التَّوجُّعِ والألَم ، ورَسْمٌ لمَسِيْرَةِ أحلامٍ مُهشَّمَةٍ وَمُهَمَّشَة ، وسُجُونٌ إنَّمَا هِيَ فِي حَقيقتِهَا مَقَابرٌ مَأهولَة بالأحيَاء .
إلى أنْ نصِلَ إلى قول بطل القصَّة الشَّيخ رَابح : " ترَكْتُ دَاخلَ السِّجْنِ الحقيقَة " ، وإنَّمَا الحَيَاةُ فِي الحَقِيقَة ، فلا حيَاة مَعَ الزَّيفِ ولا حيَاة فِي زَمَنِ الأقنِعَة وَالخِيَانَة ولابُدَّ مِنْ تقدِيم القَرَابين ليُصْبِحَ بإمكان الأرض أنْ تعيشَ طيّبة طاهرة بإرادة الإنسان وذلك من أجل صناعة إنسانيّة المستقبل ...
جدك يا ابنتي.. .. تكسرت نبرته .. غارت الكلمات في
حلقه..دمعت عيناه..
نجد هُنا في هذا المَشْهَدِ استنفارًا لآدميّة الإنسَان ، وقد أدركَ القاص هُنا أهميّة نمطيّة الموقف وأنَّه أمرٌ ضروري استخدام هذه النمطية لتوصيل الفكرة .
حجزوا عينَيّ ذات مرة..ثم منحوا جسمي البراءة.. فكيف
سأجتاز الحواجز؟ كيفأخطو؟ لقد منحوني ـ بنيتي ـ جرحا دفينا وعصا..
لحَظاتٌ مِنَ الألَم والإعيَاء والضَّعف والانهِيَار ، صِرَاعٌ مَا بَيْنَ انتحَارٍ وانتِصَار ، مَا بَيْنَ ولادَةِ صَوتٍ وَجَنَازَةِ مَوْت .
أعْجَبَنِي الاستِفهَام فِي قولهِ " كيْفَ أخْطُو " ، فالخَطْو يُؤلِّفُ جزءًا مِنَ الهَوِيَّة ، واغتِيَالُ الخَطْو يومِئ لانعِدَام التَّوظيف لمَسِيْرَةِ الهَوِيَّة . فَكمَا يُقَال " إنَّ مَشيتنَا تؤلِّفُ جزءًا مِنْ هويَّتنا " .
غيْرَ أنَّ فِعْلَ الخَطْوِ للسِّجْن للمَقَابر للتَّضحِيَة ، حَدَّدَ للنَّصْرِ هَوِيَّة مُستقبلاً ، مَعنَوِيًّا .
هذه المرة لا أدري إذا كنت سأعود! فخذي جرحي وأحزاني فربما ..لن أعود..
هَذا الحوَار تمَّ توجِيهُهُ مِنَ الشَّيخ رَابِح بطلَ القِصَّة إلى " الطِّفلَة مَريَم وأجِدُ أنَّ اختِيَار القَاص لـ " الطَّفل ، الطفلَة ، الطفولَة " إنَّمَا هُوَ رَمْزٌ للأمَل فِي إحيَاء الحُريَّة المجُهَضَة . فكأنَّمَا ذلكَ الشِّيخ يُودِعُ مَولُودَ النَّصْرِ مَا بَيْنَ أحضَانِ تلكَ الطِّفلَة لتُكْمِلَ مَسِيْرَة النِّضَال والكِفَاح والصُّمود ولتروِيَ تأريخَ الظَّفَر ، وتُشْعِلَ مَصَابيح الفَلاح ، ضِدَّ العُدوَان والضَّلال ، وَلتذَكِّرَ بقرَابِينَ الجَزائِر البَوَاسِل .
ثمَّ آتِي لذاتِ العِبَارَة :
هذه المرة لا أدري إذا كنت سأعود! فخذي جرحي وأحزاني فربما ..لن أعود..
لأتنَاوَلَ هَذا السِّيَاق هَذِهِ المرَّة مِنْ ناحِيَة لغَوِيَّة :
فقدْ اختتمَ القاصُّ القِصَّة بعِبَارَة " فربَّمَا .. لنْ أعُود "وَأرَى أنَّ استِخدَام القَاص لأدَاة النَّصْب " لَنْ " أضَاف بُعْدًا فنِيًّا لجَمَالِيَّةِ السِّيَاق لغَوِيًّا ، إذ بإمكَان القَاص أنْ يستَخدِمَ الأدَاة " لا النَّافِيَة " لذاتِ النَّفي فيقُول " فربَّمَا .. لا أعود !"
غيْرَ أنَّ استِخدَامه لأدَاة النَّصْب كانَ أقوَى ، فلا النافِيَة توحِي بمُجرَّدِ الإخبَار عَنْ عَدَمِ العَودَة ، وتوحِي بأنَّ عَدَمِ العَودَة قدْ يَكونُ ناتِج إرَادِي ، بينَمَا الاستخدَام للأدَاة " لنْ " أدَّى وظيفَة وبُعدًا آخرَ يَخدمُ السِّيَاق ، " فلنْ " تعنِي أنَّ الوضْعِيَّة تلكَ ثابِتَة مُنَصَّبَة ، والأدَاةُ " لنْ " تتركُ أثرًا فيمَا يقَعُ بعدهَا بينما لا النافِيَة لا تؤثِّرُ عَلى مَا يقعُ بعدهَا ، كذلك الأمْرُ معنوِيًّا فعَدَم العَودَة ستخلِّدُ خلفهَا أثرًا باقِيًا ثابِتًا ، كمَا وأنَّهَا " أيْ عَدَم العَوْدَة " مَحكُومَةٌ قسْرًا وقهْرًا مَعَ نصبٍ واحتِيَال ..!
فكلاهُمَا أيْ الأدَاة " لنْ " وَ الأدَاة " لا النَّافِيَة يُخبِرُ بنفْيِ العَوْدَة وعَدمِهَا ، غيْرَ أنَّ استِخدَام " لنْ " يُؤَدِّي وظِيفَة دَلالِيَّة تخدِمُ
السِّيَاق الوَارِد فِي القِصَّة بشَكْلٍ أكبَر فِي رَأيِي :
فالاستِخدَام لـ " لنْ " يُوحِي بأنَّ أمْرَ عَدَمِ العَوْدَة أمْرٌ قهْرِيٌّ خَارِج عَنِ الإرَادَة أوِ السِّيْطَرَة ، فقدْ تَكُون التَّدَاعِيَات والمُلابَسَات والعَوَامل السُّلطَوِيَّة آنذاك تُؤَكِّدُ عَلى عَدَمِ العَوْدَة ، فِي نظَرِ بَطَلِ القِصَّة ، خاصَّة وأنَّ القِصَّة تَدُورُ مِشَاهِدُهَا حَوْل الاستِعمَار والغَزْو
والحَرْب الدَّامِيَة والديكتَاتورِيَّة الغَازِيَة وقدْ يَكُون هَذا المُنَاضِل مَصْدَر خَوْفٍ وقَلَق يُهَدِّد كُرِسِيَّ الحَاكِم " الغَازِي " فِي القِصَّة ..
إضَافَةً إلى الوظِيفَة المَعنَوِيَّة التِي تُؤدِّيهَا " لنْ " كمعنَى والتِي نأخذ مِنهَا مَا يَدعَم الآليَّة الوصفِيَّة للمَشْهَد ، " فلنْ " أدَاة تؤثِّرُ فيمَا يَقَعُ بعْدَهَا وتتركُ فيهِ أثَرًا باقِيًا ؛ كذلك بالنِّسْبَة لعَدَمِ العَوْدَة أوِ الشَّهَادَة وَالجِهَاد ، فهِيَ تتركُ أثَرًا فِيمَا يَقَعُ بعْدَهَا ، فَهِيَ التِي تصنعُ النَّصْرَ والفِدَاء والتَّضحِيَة ، والتِي اختَارَتْ بطَلَ القِصَّة
" الشَّيْخ رَابح " كيْ يَكُون قُربَانهَا .
الدكتورة: رجاء أحمد ـ المملكة العربية السعودية 18/11/2008