باب الأسماء التي تسمى بِهَا الأشخاص
عَلَى المُجاوَرَة والسَّبب
قال علماؤنا: العرب تسمّي الشيءَ باسم الشيءِ إِذَا كَانَ مجاوراً لَهُ أَوْ كَانَ منه بسبب.
وذلك قولهم "التيمُّم" لَمَسْح الوجه من الصعيد، وإنما التيمّم الطلب والقصد.
يقال" تيمّمتك وتأممتك أي تعمّدتك.
ومن ذَلِكَ تسميتهم السحاب "سماءً" والمطر "سماء"
وتجاوزوا ذلك إِلَى أن سموا النبتَ سماءً. قال شاعرهم:
إِذَا نَزَل السماءُ بأرض قوم
وربما سموا الشحم "ندىً" لأن الشحم عن النبت،
والنبت عن الندى قال ابن أَحْمَرَ:
كثور العداب الفَرْد يَضْرِبه النَّدى
تَعَلَّى النَّدى فِي متنه وتَـحَـدَّرا
ومن هَذَا الباب قول القائل:
قَدْ جعلتُ نفسي فِي أديمِ
أراد بالنفس الماء وذلك قِوامَ النفس بالماء.
وذكر ناس أنّ من هَذَا الباب قوله جلّ ثناؤه "أنزلَ لكُمْ من الأنعام ثمانية أزواج" يعني خلق.
وإنما جاز أن يقول أنزل لأن الأنعام لا تقوم إِلاَّ بالنبات والنبات لا يقوم إِلاَّ بالماء،
والله جلّ ثناؤه ينزل الماء من السماء.
قال: ومثله "قَدْ أنزلنا عليكم لِباساً" وهو جلّ ثناؤه إنما أنْزَلَ الماء،
لكن اللباس من القطن، والقطن لا يكون إِلاَّ بالماء.
قال: ومنه جلّ ثناؤه "وليَسْتَعْففِ الَّذِين لا يجدون نكاحاً"
إنما أراد والله أعلم - الشيء يُنْكَحُ بِهِ من مَهْر ونَفقة، ولا بد للمتزوج بِهِ منه.
باب القول فِي أصول أسماء قِيسَ عَلَيْهَا وأُلحِقَ بِهَا غيرُها
كَانَ الأصمعي يقول: أصل "الورِد" إتيان الماء،
ثُمَّ صار إتيانُ كلِّ شيء ورْداً. و"القرَبَ" طلبُ الماء.
ثُمَّ صار يقال ذَلِكَ لكل طلب، فيقال: "هو يَقْرَب كذا" أي يطلبه و "ولا تَقْرب كذا".
ويقولون: "رَفَعَ عَقِيرَتَهُ" أي صوته،
وأصل ذَلِكَ أن رَجُلاً عُقِرَتْ رجله فرفعها وجعل يَصيحُ بأعلى صوته فقيل بعد ذَلِكَ لكل من رفع صوته: رفع عقيرته.
ويقولون" بَيْنَهما مسافة" وأصله من "السَّوف" وهو الشم. ومثل هَذَا كثير.
قلنا: وهذا الَّذِي عن الأصمعي وسائر مل تركنا ذكره لشهرته فهو راجع إِلَى الأبواب الأُوَلِ،
وكلّ ذَلِكَ عندنا توقيف عَلَى مَا احتججنا لَهُ.
وقول هؤلاء: إنه كَثُرَ حَتَّى صار كذا، فعلى مَا فسرناه من أن الفرع مُوَقَّفٌ عليه،
كما أن الأصل موقَّف عَلَيْهِ.
باب الأسماء كَيْفَ تقع عَلَى المسميات
يُسمَّى الشيئان المختلفان بالاسمين المختلفين، وذلك أكثر الكلام كرَجُل وفَرَس.
ونُسمى الأشياء الكثيرة بالاسم الواحد، نحو: "عين الماء" و "عين المال" و "عين السحاب".
ويسمى الشيء الواحد بالأَسماء المختلفة. نحو: "السيف والمهنّد والحسام".
والذي نقوله فِي هَذَا: إن الاسم واحد وهو "السيف" وَمَا بعده من الألقاب صفات،
ومذهبنا أن كل صفة منها فمعناها غير معنى الأخرى.
وَقَدْ خالف فِي ذَلِكَ قوم فزعموا أنها وإن اختلفت ألفاظها فإنها ترجع إِلَى معنى واحد.
وذلك قولنا: "سيف وعضب وحُسام".
وقال آخرون: لَيْسَ منها اسم ولا صفة إِلاَّ ومعناه غيرُ معنى الآخر.
قالوا: وكذلك الأفعال. نحو: مضى وذهب وانطلق. وقعد وجلس. ورقد ونام وهجع.
قالوا: ففي "قعد" معنى لَيْسَ فِي "جلس" وكذلك القول فيما سواهُ.
وبهذا نقول، وهو مذهب شيخنا أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب.
واحتجُ أصحاب المقالة الأولى بأنه: لو كَانَ لكلّ لفظة معنىً غير معنى الأُخرى لما أمكن أن يعبّر عن شيء بغير عبارته.
وذلك أنّا نقول فِي "لا ريب فِيهِ": "لا شك فِيهِ"
فلو كَانَ "الرَّيْب" غير "الشَّكّ" لكانت العبارة عن معنى الرّيب بالشك خطأ. فلما عُبّرَ عن هَذَا بهذا علم أن المعنى واحد.
قالوا: وإِنما يأتي الشعر بالاسمين المختلفين للمعنى الواحد فِي مكان واحد تأكيداً ومبالغة. كقولهم:
وهند أتى من دونها النأيُ والبُعدُ
فقالوا: فالنأي هو البعد قالوا: وكذلك قول الآخر:
عام الحبس والأصر
إِن الحبس هو الأصْرُ ونحن نقول: إِن فِي قعد معنىً ليس فِي جلس.
ألا ترى أَنَّا نقول "قام ثُمَّ قعد" و "أخَذَهُ المقِيمُ والمقْعِدَ" و "قَعَدَتِ المرأة عن الحيض".
ونقول لناس من الخوارج "قَعَدٌ"
ثُمَّ نقول: "كَانَ مضطجعاً فجلس" فيكون القعود عن قيام والجلوس عن حالة هي دون الجلوس
لأن "الجَلْسَ: المرتفع" فالجلوس ارتفاع عما هو دونه. وَعَلَى هَذَا يجري الباب كلُّه.